"هانحارب.. هنحارب إسرائيل الأرانب" .. أنا والسادس من
أكتوبر
كتب محمود خليل:


على أية حال, كنت فى الرابعة الإبتدائية حينما
هاجم الصهاينة مصنع أبو زعبل للصناعات المعدنية, ومدرسة بحر البقر الإبتدائية
بمحافظة الشرقية, وكم تأثرنا بمشاهد القتل والدمار والدماء وصور المدرسة بعد
العدوان, وكراسات التلاميذ وقد غطتها دماء وأشلاء التلاميذ الذين ألقيت عليهم
قنابل الصهاينة, بخلاف المصنع الذى تهدم واستشهد وأصيب الكثير من العمال وقتها,
بسبب هذا العدوان الهمجى على الأبرياء من المدنيين, وحفظنا وقتها الأناشيد
والأغانى التى كانت تدعو للثأر من الصهاينة, وصنع كل منا ألبوما للصور للعدوان
الصهيونى على المدرسة وعلى المصنع’ وأمتلأت قلوبنا بالرغبة فى الثأر من أخواننا
تلاميذ بحر البقر وأعمامنا فى مصنع بحر البقر.

أما المدارس فى تلك الفترة فلم تكن بعيدة هى
الأخرى عن الأحداث السياسية بل يمكن القول أنها كانت فى بؤرة الأحداث فالشحن
المعنوى والوطنى والثأرى من الصهاينة كان يسيطر على الجميع بداية من تلميذ
الإبتدائى وحتى المستويات العليا فى الحكومة, وكانت التربية القومية فى السبعينيات
من القرن الماضى على أشدها فالشحن المعنوى أو التعبوى كان على قدر كبير من الأهمية
فى تلك الأيام, ونعتقد أن تلك الفترة هى التى زرعت داخلى وداخل كل جيلى والجيل
الذى سبقنا, حب البلد, حب مصر, ولا نطيق أحدا يريدها, أو يتحدث عنها بسوء, بخلاف
التربية الدينية التى زرعت فينا المفهوم الدينى لحب الوطن والدفاع عنه والذود عن
حدوده, حتى أننا كنا فى تلك السن الصغيرة نطلب من المسئولين الذهاب إلى الجبهة
لمحاربة الصهاينة, ونخرج فى مظاهرات صبيانية بعد إنتهاء المدرسة ونردد
"هانحارب.. هنحارب إسرائيل الأرانب", لقد زرعت خطب عبد الناصر
"العنترية" داخلنا أن هؤلاء الصهاينة مجرد أرانب إذا ظهرنا أمامهم فسوف
يفرون من أمامنا كالأرانب المذعورة, بخلاف الشعارات والهتافات الخرى وليدة اللحظة
التى كنا نرددها وكانت تعبر عن حبنا للوطن ورغبتنا فى الثأر من الصهاينة.

وصلت مدرستى -مدرسة شجرة مريم الإبتدائية
بالمطرية- قبل الحادية عشرة قبل الظهر, سائرا على الأقدام –حوالى كيلومترين- فقد
كانت هى المدرسة الإبتدائية الوحيدة فى المطرية, كانت المدرسة قد طلت زجاجها باللون
الأزرق, مثل باقى المبانى الحكومية ومنازل الأهالى التى طلى زجاجها بهذا اللون
خوفا من الغارات الإسرائيلية, وأمام بوابتها بنى حائط من الطوب بارتفاع البوابة, وقد
أقيمت تلك الحوائط أمام بوابات المصالح الحكومية والمنازل أيضا, حماية للأهالى من
شظايا القنابل فى حالة وقوع غارات إسرائيلية.

بدأنا الحصة الأولى وسارت الأمور على طبيعتها إلى
أن صدرت تعليمات أثناء الحصة الثانية لمغادرة المدرسة وقالوا لنا: "يالا..
مرواح", بالطبع فرحنا أننا سوف "نروح", ولن نستكمل اليوم الدراسى
الذى كان ثقيلا علينا كتلاميذ بسبب "الحبسة" فى الفصل وأداء الواجب
و"نسميع" المحفوظات وجدول الضرب, وفى الشارع لاحظت أن شيئا غير طبيعى
فالسيارات التى تحمل الموظفين تنتشر فى الشارع, والحركة غير مألوفة, وسمعت وأنا
أسير من ميدان المطرية إلى منزلى على مسيرة كيلومترين همهمات بين الناس عن
"قيام" الحرب, وخليط من الفرحة والقلق يعلو وجوه الناس.
وصلت المنزل ووجدت والدى فرحانا يستمع إلى
الراديو وقد أغرورقت عيناه بالدموع وكان يردد مع كل بيان تذيعه الإذاعة "الله
أكبر الله أكبر, ربنا ينصركم, ربنا ينصرك يا أنور, ربنا ينصرك يا ريس", ولم
ينقطع الراديو عن منزلنا فقد ظل "شغالا" ليل نهار لمتابعة البيانات
العسكرية التى تذيعها القيادة العامة للقوات المسلحة عن عبورنا قناة السويس وانتصاراتنا
فى سيناء, وكنا نخرج لنرى على ما يبدو أنها كانت مدفعية مضادة للطائرات, كانت وضعت
على أعلى عمارة فى المنطقة, وكانت تبلغ سبعة أدوار, وكنا نرى ومضات النيران وهى
تطلق قذائفها, حماية لشركات البترول, فقد كنا قريبين من منطقة مسطرد التى تم نقل
عدد من شركات البترول إليها بعد عدوان 67 خوفا من أن تطولها طائرات الصهاينة ومن
بين هذه الشركات شركة أنابيب البترول ومصر للبترول والخزف والصينى -التى كان يعمل
بها أبى- والنصر للزجاج وغيرها, وكلها أقيمت على أراضى من أخصب وأجود الأراضى
الزراعية, فالبناء على الراضى الزاعية بدأ من عهد عبد الناصر الذى بنى هذه المصانع
على تلك الأراضى بينما كان يمكنه إقامتها فى الصحراء ولكنه برر ذلك وقتها أن بناء
تلك المصانع على الرقعة الزراعية كان بمثابة التمويه على العدو الصهيونى وحتى تكون
وسط مناطقمدنية مأهولة بالسكان فترتدع إسرائيل عن مهاجمتها ولكنها لم ترتدع وقصفت
مدرسة بحر البقر ومصنع أبى زعبل.

سارت الأمور هكذا طوال الحرب أشترى الأهرام
والأخبار أو أحدهما ورغم أننى كنت فى السادسة الإبتدائية فقد كنت اقرأ الجرائد
كلها وخاصة الرسائل الصحفية التى كان ينقلها المراسلون الحربيون من الجبهة وتحمل
أحاديث مع الجنود والقادة وأخبار الأسرى والعمليات البطولية التى يقوم بها الجنود
ضد الصهاينة على أرض سيناء الطاهرة, وكم تهللت حينما قرأت قصة الجندى محمد المصرى
الذى كان أول من رفع العلم المصرى على الضفة الشرقية للقناة وكذلك قصة أسر الجنرال
الإسرائيلى عساف ياجورى قائد كتيبة دبابات صهيونية وأفراد كتيبته على يد ضابط مصرى
بسلاحه الشخصى فقط, فقد كان الصهاينة من شدة القتال وبأس الجدنى المصرى يطلبون
الاستسلام للجنود المصريين رغم تسليحهم البسيط ولكن الله سبحانه وتعالى ألقى فى
قلوبهم الرعب حتى خيل للجنود الصهاينة –حسب رواية أحد الجنود الصهاينة- أن الجنود
المصريين كان وحوشا ويحملون أسلحة فتاكة.
كانت الفرحة تعم الجميع فى الشوارع والمدارس
والمصانع وحالة الحب بين الناس كانت واضحة جدا, الجميع تعلو وجهه فرحة وعلامات
النصر, وكانت التحية المعتادة بين الناس بعضهم البعض فى تلك الأيام هى "صباح
النصر", "صباح العبور", ولمدة أسبوع كامل أو عشرة أيام لم تسجل
أقسام الشرطة بلاغا واحدا أو حادث سرقة واحد, فكان هذا الأسبوع أسعد أيام الداخلية
المصرية فلم يدخل مواطن واحد أى قسم شرطة على مستوى الجمهورية, وعدنا إلى المدرسة
بعد حوالى عشرة أيام إجازة, وكنا نحفظ ونغنى ونردد الأناشيد والأغانى الوطنية التى
كانت تذيعها الإذاعة, وكنا نكتب تلك الأغانى فى كراسات الموسيقى, ومما نشرته
الجرائد كون كل تلميذ وتلميذة ألبوما من الصور لمشاهد الحرب, ضمن حصص النشاط, والتى
كانت تحفل المدارس بها فى ذلك الوقت وكانت تلك الحصص نتدرب فيها على الموسيقى
والرسم والزراعة والتدبير
المنزلى والرياضة والإسعافات الطبية والجوالة, وما زلت احتفظ
ببعض كراسات النشاط هذه حتى اليوم, مثلما احتفظ بما كتبته من أناشيد وأغانى كنا
نرددها فى تلك الأيام, مثل "ع الربابة, عبرنا الهزيمة, يا محنى ديل العصفورة,
الله أكبر, محمد أفندى رفع العلم, عاش اللى قال, خلى السلاح صاحى", وغيرها من
الأغانى التى ما زالت تعيش فى وجدانى ووجدان من عاصر تلك الفترة وحتى الأجيال التى
لم تعش تلك الأيام تستمتع بها, وإن كنت أعتقد أنه ليس بذات الروح التى كنا نرددها
عام 73, وكلما أردت تذكر تلك الأيام عدت إلى تلك الكراسات, فهى تعود بى إلى أيام
من الصعب أن تتكرر إلا كل عدة أجيال, أنها أيام العزة والنصر والفخار والكرامة,
التى يجب على الأجيال التى لم تعاصرها أن "تتمنى" أن تكون عاصرت تلك
الأيام التى عاصرها جيلنا, وتفاعل معها بكل كيانه ووجدانه, وشعر فيها بنشوة النصر,
ورفع العلم المصرى على أرضنا المحررة من الدنس الصهيونى.