الثلاثاء، أكتوبر 06، 2009

"هانحارب.. هنحارب إسرائيل الأرانب" .. أنا والسادس من أكتوبر

"هانحارب.. هنحارب إسرائيل الأرانب" .. أنا والسادس من أكتوبر


كتب محمود خليل:

حينما وقعت هزيمة 67 كنت فى بداية المرحلة الإبتدائية, كان الحزن يلف الوطن بأكمله وحالة من اللامبالاة والإحباط تسيطر على المواطنين, خاصة أفراد القوات المسلحة الذين كنت أشعر بمدى الضغط الذى يعيشون فيه, والعصبية التى كانت تنتابهم, وكان الشباب يعيش حالة من الضياع, وبالطبع كانت الظروف المادية صعبة جدا وكان الزواج كذلك, فمن يتخرج يتم تجنيده ولا يدرى متى يخرج من الخدمة حتى أن بعضهم قضى أكثر من سبعة أعوام فى القوات المسلحة, أما عن الأجهزة الكهربية والسيارات وحتى بعض السلع الإستهلاكية فكانت تعانى من احتكار البعض ولا تستطيع الحصول عليها إلا بالواسطة أو بالرشوة, بخلاف أزمة المساكن وأزمة المواصلات, والحالة السيئة التى وصلت إليها المرافق العامة من كهرباء ومياه وصرف صحى وتليفونات وطرق, حتى أن بعض المشروعات كأحد الكبارى مثلا بطول كيلو متر يظل العمل فيه 25 سنة كاملة, ورغم ما نعانيه من فساد ونهب وسلب هذه الأيام, فسنوات الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضى لا تقارن أبدا بما نعيشه حاليا, حيث كان الدخل القومى كله موجها إلى المجهود الحربى, وشعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" يسيطر على الساحة المصرية, ومن كان ينتقد أو يعارض كان مصيره الاعتقال, ويحبس بدون محاكمة, حتى أن البعض ظل فى السجن سنوات عديدة ولم يفرج عنه إلا بعد حرب أكتوبر, فقد نسى طوال هذه السنوات داخل المعتقل.
إذن, فسنوات حكم عبد الناصر ليس كما يدعى سدنة الناصرية ومن يرتدى قميصه لم تشهد مصر مثيلا لها من حيث الرخاء والحرية, وأن كل شىء كان متوافرا ورخيصا كما يدعون, على العكس فالشح كان ثمة سنوات حكمه فيكفى أن يعلم الشباب اليوم أنه كان لكى تشترى بوتاجاز أو تليفزيون أو ثلاجة أو سيارة كان عليك أن تحجزها وتظل سنين عديدة حتى تحصل على السيارة النصر التى كان يصل سعرها فى ذلك الوقت إلى 1800 جنيه أما السيارة الرمسيس فكان سعرها 400 جنيه إذا لم تخوننى الذاكرة  أما بوتاجاز المصانع الـ 2شعلة ونصف الذى يصل سعره إلى 48 جنيه أما الثلاجة الإيديال 8 قدم التى يصل سعرها إلى 68 جنيه أما تليفزيون نصر اللمبات الذى يصل سعره إلى 94 جنيه, أما إن كان لديك واسطة فأنت محظوظ فسوف تحصل عليها بعد الحجز بشهور قد تصل إلى عام أما إذا كانت واسطتك ضابط كبير فيمكنك الحصول عليها خلال شهر أو أكثر قليلا, أما تركيب خط تليفون فكان من رابع المستحيلات أن تحصل عليه قبل مرور عقدين من الزمان, ناهيكم عن عمليات القمع التى كانت تمارس ضد المعارضين أو المنتقدين لقرارت ناصر العروبة ومفجر الثورة. 
على أية حال, كنت فى الرابعة الإبتدائية حينما هاجم الصهاينة مصنع أبو زعبل للصناعات المعدنية, ومدرسة بحر البقر الإبتدائية بمحافظة الشرقية, وكم تأثرنا بمشاهد القتل والدمار والدماء وصور المدرسة بعد العدوان, وكراسات التلاميذ وقد غطتها دماء وأشلاء التلاميذ الذين ألقيت عليهم قنابل الصهاينة, بخلاف المصنع الذى تهدم واستشهد وأصيب الكثير من العمال وقتها, بسبب هذا العدوان الهمجى على الأبرياء من المدنيين, وحفظنا وقتها الأناشيد والأغانى التى كانت تدعو للثأر من الصهاينة, وصنع كل منا ألبوما للصور للعدوان الصهيونى على المدرسة وعلى المصنع’ وأمتلأت قلوبنا بالرغبة فى الثأر من أخواننا تلاميذ بحر البقر وأعمامنا فى مصنع بحر البقر.
فى ذلك العام أيضا كانت الحرب على أشدها بين الفلسطينيين والأردنيين وهو ما أصطلح على تسميته بـ "أيلول الأسود", وكانت أمى -رغم أنها لا تقرأ ولا تكتب- تستمع وتتابع تلك الأخبار وتتأثر بها وتناقشها مع أبى, كما استولى خبر استشهاد المشير عبد المنعم رياض ثم وفاة عبد الناصر على اهتمام أسرتى الصغيرة وكانت محور النقاش مع ضيوفنا من الأقارب والجيران, فقد كانت السياسة تسيطر على المنازل فى تلك الأيام.
أما المدارس فى تلك الفترة فلم تكن بعيدة هى الأخرى عن الأحداث السياسية بل يمكن القول أنها كانت فى بؤرة الأحداث فالشحن المعنوى والوطنى والثأرى من الصهاينة كان يسيطر على الجميع بداية من تلميذ الإبتدائى وحتى المستويات العليا فى الحكومة, وكانت التربية القومية فى السبعينيات من القرن الماضى على أشدها فالشحن المعنوى أو التعبوى كان على قدر كبير من الأهمية فى تلك الأيام, ونعتقد أن تلك الفترة هى التى زرعت داخلى وداخل كل جيلى والجيل الذى سبقنا, حب البلد, حب مصر, ولا نطيق أحدا يريدها, أو يتحدث عنها بسوء, بخلاف التربية الدينية التى زرعت فينا المفهوم الدينى لحب الوطن والدفاع عنه والذود عن حدوده, حتى أننا كنا فى تلك السن الصغيرة نطلب من المسئولين الذهاب إلى الجبهة لمحاربة الصهاينة, ونخرج فى مظاهرات صبيانية بعد إنتهاء المدرسة ونردد "هانحارب.. هنحارب إسرائيل الأرانب", لقد زرعت خطب عبد الناصر "العنترية" داخلنا أن هؤلاء الصهاينة مجرد أرانب إذا ظهرنا أمامهم فسوف يفرون من أمامنا كالأرانب المذعورة, بخلاف الشعارات والهتافات الخرى وليدة اللحظة التى كنا نرددها وكانت تعبر عن حبنا للوطن ورغبتنا فى الثأر من الصهاينة.         
أما يوم السبت السادس من أكتوبر عام 73 فقد كان يوما عاديا كباقى الأيام حيث أيقظتنى أمى فى الثامنة صباحا استعدادا للذهاب إلى المدرسة, حيث قمت باستكمال كتابة الواجب المدرسى فالكهرباء لم تكن قد دخلت بعد إلى منزلنا, وكنا وقتها نذاكر حتى السابعة أو الثامنة مساء على لمبة الجاز نمرة خمسة أو نمرة عشرة, وحينما وصل ظل الشمس على الأرض إلى نقطة معينة أمام المنزل وكانت توازى الساعة العاشرة صباحا, فلم نكن وقتها نمتلك ساعة حتى نعرف منها الوقت, ورغم أنه كان لدينا راديو ترانزسستور نستمع إليه فقد كان دائم العطل ويحتاج دائما إلى تغيير البطاريات الطورش التى لم تكن تستمر أكثر من ثلاثة أيام وكان ثمن البطارية الواحدة فى ذلك الوقت خمسة قروش -حسب ما أتذكر- بينما راتب والدى وقتها لا يتجاوز -حسب ما أتذكر- أحد عشر جنيها فى الشهر, كان ينفق على متطلبات أبى وأمى وأختى وأخى وأنا بالطبع, ونشيد به منزلنا, فى ذات الوقت, فكان أبى يشترى كل شهر ألف طوب أحمر وسيارة رمل وعدد من شكائر الأسمنت ويأتى البنا ليبنى الألف طوبة وهكذا حتى أتمم أبى بناء الدور الأرضى وتم تعريشه بالبوص واكان يوما مشهودا لنا حينما قام أبى بصب خرسانة سقف حجرة واحدة, وبعد عامين أو ثلاثة تمكن والدى –رحمة الله عليه- من صب خرسانة الدور الأرضى كله, على أية حال ارتديت ملابس المدرسة وكانت عبارة عن "مريلة بيج وشنطة قماش بيج أيضا وحذاء أسود" وودعتنى أمى بدعواتها بالتوفيق ونصائحها ألا أتلكأ فى الطريق وألا أكلم أحدا أو أن يطلب منى أحد أن اذهب معه وأطيعه.
وصلت مدرستى -مدرسة شجرة مريم الإبتدائية بالمطرية- قبل الحادية عشرة قبل الظهر, سائرا على الأقدام –حوالى كيلومترين- فقد كانت هى المدرسة الإبتدائية الوحيدة فى المطرية, كانت المدرسة قد طلت زجاجها باللون الأزرق, مثل باقى المبانى الحكومية ومنازل الأهالى التى طلى زجاجها بهذا اللون خوفا من الغارات الإسرائيلية, وأمام بوابتها بنى حائط من الطوب بارتفاع البوابة, وقد أقيمت تلك الحوائط أمام بوابات المصالح الحكومية والمنازل أيضا, حماية للأهالى من شظايا القنابل فى حالة وقوع غارات إسرائيلية.
دخلت المدرسة فى الحادية عشرة إلا ربع فقد كنت ضمن تلاميذ الفترة المسائية, وبعد دقائق دق جرس المدرسة إيذانا ببدء الطابور, انتظمنا فى الطابور ووقف كل مدرس ومدرسة أمام طابور فصله, وتم تأدية التمام منهم للناظر بعد أن قام كل مدرس ومدرسة فصل بالمرور على تلاميذ فصله وتأكد كل منهم أن أظافرنا مقصوصة وشعورنا محلوقة, ونظيفة, وأحذيتنا لامعة, ومرايلنا مكوية, ثم أستمعنا إلى القرآن الكريم ثم أخبار الصباح ثم تحية العلم, ثم كلمة الناظر, الذى أعطى الأذن ببدء التحرك إلى الفصول على وقع طبلة "الطرمبيطة".
بدأنا الحصة الأولى وسارت الأمور على طبيعتها إلى أن صدرت تعليمات أثناء الحصة الثانية لمغادرة المدرسة وقالوا لنا: "يالا.. مرواح", بالطبع فرحنا أننا سوف "نروح", ولن نستكمل اليوم الدراسى الذى كان ثقيلا علينا كتلاميذ بسبب "الحبسة" فى الفصل وأداء الواجب و"نسميع" المحفوظات وجدول الضرب, وفى الشارع لاحظت أن شيئا غير طبيعى فالسيارات التى تحمل الموظفين تنتشر فى الشارع, والحركة غير مألوفة, وسمعت وأنا أسير من ميدان المطرية إلى منزلى على مسيرة كيلومترين همهمات بين الناس عن "قيام" الحرب, وخليط من الفرحة والقلق يعلو وجوه الناس.
وصلت المنزل ووجدت والدى فرحانا يستمع إلى الراديو وقد أغرورقت عيناه بالدموع وكان يردد مع كل بيان تذيعه الإذاعة "الله أكبر الله أكبر, ربنا ينصركم, ربنا ينصرك يا أنور, ربنا ينصرك يا ريس", ولم ينقطع الراديو عن منزلنا فقد ظل "شغالا" ليل نهار لمتابعة البيانات العسكرية التى تذيعها القيادة العامة للقوات المسلحة عن عبورنا قناة السويس وانتصاراتنا فى سيناء, وكنا نخرج لنرى على ما يبدو أنها كانت مدفعية مضادة للطائرات, كانت وضعت على أعلى عمارة فى المنطقة, وكانت تبلغ سبعة أدوار, وكنا نرى ومضات النيران وهى تطلق قذائفها, حماية لشركات البترول, فقد كنا قريبين من منطقة مسطرد التى تم نقل عدد من شركات البترول إليها بعد عدوان 67 خوفا من أن تطولها طائرات الصهاينة ومن بين هذه الشركات شركة أنابيب البترول ومصر للبترول والخزف والصينى -التى كان يعمل بها أبى- والنصر للزجاج وغيرها, وكلها أقيمت على أراضى من أخصب وأجود الأراضى الزراعية, فالبناء على الراضى الزاعية بدأ من عهد عبد الناصر الذى بنى هذه المصانع على تلك الأراضى بينما كان يمكنه إقامتها فى الصحراء ولكنه برر ذلك وقتها أن بناء تلك المصانع على الرقعة الزراعية كان بمثابة التمويه على العدو الصهيونى وحتى تكون وسط مناطقمدنية مأهولة بالسكان فترتدع إسرائيل عن مهاجمتها ولكنها لم ترتدع وقصفت مدرسة بحر البقر ومصنع أبى زعبل.
لم ننم ليلتها إلا قرب الفجر ومنذ الصباح الباكر أيقظنا والدى وطلب منى شراء الجرائد وخرجت أشترى الجريدة وسرت اكثر من ثلاثة كيلومترات أبحث عن بائع الجرائد ولكن الجرائد نفدت بعد صدورها بدقائق فسرت أكثر من كيلومترين آخريين وأخيرا وجدت الأهرام والأخبار وعدت بهما إلى المنزل وكأننى أحمل كنزا, وكان سعر الجريدة وقتها خمسة مليمات والطريف أن الناس فى الطريق كانت تطلب منى أن تشترى الجريدة بقرش صاغ وبعضهم طلب أن يشتريها بنصف فرنك أى قرشين ونصف ولكننى رفضت وأطبقت على الجريدتين يداى خوفا أن يخطفهما أحدا منى.
سارت الأمور هكذا طوال الحرب أشترى الأهرام والأخبار أو أحدهما ورغم أننى كنت فى السادسة الإبتدائية فقد كنت اقرأ الجرائد كلها وخاصة الرسائل الصحفية التى كان ينقلها المراسلون الحربيون من الجبهة وتحمل أحاديث مع الجنود والقادة وأخبار الأسرى والعمليات البطولية التى يقوم بها الجنود ضد الصهاينة على أرض سيناء الطاهرة, وكم تهللت حينما قرأت قصة الجندى محمد المصرى الذى كان أول من رفع العلم المصرى على الضفة الشرقية للقناة وكذلك قصة أسر الجنرال الإسرائيلى عساف ياجورى قائد كتيبة دبابات صهيونية وأفراد كتيبته على يد ضابط مصرى بسلاحه الشخصى فقط, فقد كان الصهاينة من شدة القتال وبأس الجدنى المصرى يطلبون الاستسلام للجنود المصريين رغم تسليحهم البسيط ولكن الله سبحانه وتعالى ألقى فى قلوبهم الرعب حتى خيل للجنود الصهاينة –حسب رواية أحد الجنود الصهاينة- أن الجنود المصريين كان وحوشا ويحملون أسلحة فتاكة.

كانت الفرحة تعم الجميع فى الشوارع والمدارس والمصانع وحالة الحب بين الناس كانت واضحة جدا, الجميع تعلو وجهه فرحة وعلامات النصر, وكانت التحية المعتادة بين الناس بعضهم البعض فى تلك الأيام هى "صباح النصر", "صباح العبور", ولمدة أسبوع كامل أو عشرة أيام لم تسجل أقسام الشرطة بلاغا واحدا أو حادث سرقة واحد, فكان هذا الأسبوع أسعد أيام الداخلية المصرية فلم يدخل مواطن واحد أى قسم شرطة على مستوى الجمهورية, وعدنا إلى المدرسة بعد حوالى عشرة أيام إجازة, وكنا نحفظ ونغنى ونردد الأناشيد والأغانى الوطنية التى كانت تذيعها الإذاعة, وكنا نكتب تلك الأغانى فى كراسات الموسيقى, ومما نشرته الجرائد كون كل تلميذ وتلميذة ألبوما من الصور لمشاهد الحرب, ضمن حصص النشاط, والتى كانت تحفل المدارس بها فى ذلك الوقت وكانت تلك الحصص نتدرب فيها على الموسيقى والرسم والزراعة والتدبير
المنزلى والرياضة والإسعافات الطبية والجوالة, وما زلت احتفظ ببعض كراسات النشاط هذه حتى اليوم, مثلما احتفظ بما كتبته من أناشيد وأغانى كنا نرددها فى تلك الأيام, مثل "ع الربابة, عبرنا الهزيمة, يا محنى ديل العصفورة, الله أكبر, محمد أفندى رفع العلم, عاش اللى قال, خلى السلاح صاحى", وغيرها من الأغانى التى ما زالت تعيش فى وجدانى ووجدان من عاصر تلك الفترة وحتى الأجيال التى لم تعش تلك الأيام تستمتع بها, وإن كنت أعتقد أنه ليس بذات الروح التى كنا نرددها عام 73, وكلما أردت تذكر تلك الأيام عدت إلى تلك الكراسات, فهى تعود بى إلى أيام من الصعب أن تتكرر إلا كل عدة أجيال, أنها أيام العزة والنصر والفخار والكرامة, التى يجب على الأجيال التى لم تعاصرها أن "تتمنى" أن تكون عاصرت تلك الأيام التى عاصرها جيلنا, وتفاعل معها بكل كيانه ووجدانه, وشعر فيها بنشوة النصر, ورفع العلم المصرى على أرضنا المحررة من الدنس الصهيونى.